افترضت عملية السلام المشوّهة بين الفلسطينيين والإسرائيليين أن ثمة حلاً للصراع وسلاماً قريباً. ولكن ترى هذه المقالة ضرورة في عكس هذه المقاربة والفرضية البسيطة وربما الساذجة من أجل الوصول إلى حلول عملية وواقعية. ماذا لو أشارت الفرضية الأساسية للعملية السلمية إلى أن الصراع الفلسطيني-الإسرائيلي هو صراع طويل الأجل ودائم وربما غير قابل للحل؟ ماذا تعني هذه الفرضية الجديدة للخيارات والتدخلات السياسية الخارجية، وماذا تعني للاستراتيجيات الفلسطينية والإسرائيلية؟
لا تُعتبر أسئلة كهذه مجرد ترف فكري أو فانتازيا فكرية - كما قد يقول البعض - وإنما هي أسئلة ناشئة بسبب تعقيدات ديناميكيات الصراع وحسابات المصالح والحقائق على الأرض والخلل البنيوي في ميزان القوى. من دون أدنى شك، فإن السلام العادل المستدام هو بعيد جداً، ومن الخطورة ادعّاء أن السلام على مرمى حجر بل والإيمان بأسطورة أن "العملية السلمية" بشكلها الحالي ستفضي إلى سلام عادل، وبأن حل الدولتين هو الحل الأمثل والواقعي والوحيد من أجل تسوية الصراع وإحراز الحقوق. الدلائل والقرائن على أرض الواقع تشير إلى أن حل الدولتين -كما نعرفه- وإحراز الحقوق، هما خطان متوازيان لا يلتقيان أبداً. ثمة دولة واحدة على أرض الواقع على أراضي فلسطين وهي "دولة اسرائيل"، ومن هذه الحقيقة يجب علينا بدء أي عملية تفكير تتعلق بالحلول والحقوق لتحلل طبيعة وسياسات هذه الدولة وبناها الاستعمارية وأنظمتها القائمة على التمييز العنصري واحتلالها العسكري للأرض الفلسطينية. نقطة بدء مختلفة عن هذه النقطة لن تفضي إلاّ لمزيد من الوقت الضائع والتوهان وتجذر الاستبداد والاستعمار والاضطهاد.
ولكن الاستراتيجيات ونقاط البدء البديلة تتطلب شروطاً استباقية، وتتطلب عنونة جملة من المواضيع والقضايا لتسمح لكلا الطرفين (الإسرائيلي والفلسطيني) بالبدء في عملية تغيير إيجابية. بالنسبة للفلسطينيين، فإن غياب قيادة سياسية موحدة وممثلة للشعب، وغياب ثقافة الجدل والتجادل، وتجذر حالة التفتت والتشرذم على كل الأصعدة، كلها عوامل تديم حالة الضعف الفلسطيني. أما بالنسبة للإسرائيليين، فإن عدم رغبتهم أو مقدرتهم على لمس معنى وتكاليف الاحتلال العسكري للأراضي المحتلة، والشعور بالتفوق والاحتفاء بثقافة الاستعلاء، والفشل أو رفض عنونة التخوفات والفوبيا الديمغرافية وما يتعلق بها من تخوفات أخرى في الوعي العام، كلها عوامل لا تشير إلى أن نهاية الصراع قريبة أبداً. سأناقش القضايا الست هذه أدناه.
فمن أجل عنونة فجوة الشرعية للقيادة، فإن الفلسطينيين بأمسّ الحاجة لقيادة فكرية جديدة تعمل من أجل إحياء وإعادة خلق الفكر والبرنامج السياسي الفلسطيني، والعمل على لم شمل الفكر الفلسطيني لتقديم استراتيجيات وطنية بديلة ورؤى مختلفة تقود الفعل السياسي.
إحياء وإعادة خلق الفكر السياسي الفلسطيني هو متطلب أساسي لإعادة خلق المنظومة السياسية الفلسطينية برمتها. فمن من دون رؤى وخطط عمل واضحة لسيناريوهات مختلفة ستبقى حالة التشرذم والتفتت الفلسطيني هي السائدة وسيستمر الأمر الواقع بميزان قواه المختل. وبالتالي فعلى القيادة الفكرية الجديدة للفلسطينيين استمداد الإلهام من تطلعات وأصوات الناس والشعب، والتفكير خارج حدود الصندوق لإيجاد حلول وخطط عمل مبدعة وواقعية (ليست واقعية بالمعنى السياسي المحافظ المتنازل). فالنظام أو الحقل السياسي الفلسطيني عمل على الدوام على تهميش الناس/الشعب وأصواته -وخاصة اللاجئين- وأمعنت القيادة السياسية بدفع أصوات وتطلعات وآراء الشعب الفلسطيني لهامش وأطراف النظام والقرار السياسي بدلاً من الإتيان به للجوهر. والنتيجة الطبيعية لهذه الحالة تمثلت بإدامة نظام حوكمة شخصاني ريعي يحكم الفلسطينيين. وجود الفلسطينيين في جوهر نظامهم السياسي لن يسمح لقيادتهم باستخدام تضحياتهم لتحقيق مصالح سياسية ضيقة وربما شخصية ترجع بالفائدة على البعض (النخبة) وتضر المعظم (الشعب). هذه التوليفة ممكنة فقط عندما تصبح ثقافة المساءلة هي الثقافة السائدة وعندما يقرر الفلسطينيون (الشعب) قيادة عملية الحوكمة بعد تحدي البنى القمعية الداخلية والخارجية المتعددة والاشتباك معها.
فملكية الشعب الفلسطيني لنظامه السياسي لن تعزز ثقافة المساءلة العامة فحسب، وإنما ستجسر فجوة الشرعية والثقة الموجودة. السؤال الأول الذي يتوجب على القيادة الفكرية والسياسية الجديدة للفلسطينيين سؤاله يتمثل بالتالي: أين يقع الفلسطينيون (الشعب والناس) في نظامهم السياسي؟ هذا ليس بالسؤال المثالي، وإنما هو سؤال أساسي إن افترضنا أن "الدمقرطة" هي الهدف. المطلوب بهذه الحالة هو قيادة فلسطينية متفانية ومنحازة لشعبها وتطلعاتهم ترفض أسس ومبادئ اتفاقية اوسلو وقواعد اللعبة الموجودة حالياً. فرفض أسس ومنهجية ومنطق اتفاقية اوسلو ليس رفضاً للسلام – كما قد يدّعي البعض - وإنما هي رفض للعبودية والاضطهاد والامتهان المستمر للكرامة والتي امتدت لعقود من الزمن. وبالتالي، فمن دون مواجهة اسرائيل والاشتباك معها بكافة الطرق المتاحة والمتفق عليها وطنياً، فلن يستطيع الفلسطينيون تغيير الأمر الواقع والذي يصب في صالح اسرائيل ومشروعها الاستعماري. فالاشتباك مع المحتل والمستعمِر والمضطهِد هو الدرس الأهم الواجب تعلمه من حركات التحرر حول العالم.
بعد الفشل المدوّي لجهود بناء وصنع السلام على مر العقود الماضية؛ فإن استراتيجية الاشتباك على الساحات المحلية والدولية وعلى المستويات الصغيرة والكبيرة هي الاستراتيجية الأقدر على إحراز الحقوق وعنونة اختلال ميزان القوى بين الفلسطينيين والإسرائيليين. فمن دون عنونة ميزان القوى المختل ومن دون إنهاء الاحتلال العسكري الإسرائيلي للضفة الغربية وقطاع غزة فمن المستحيل تحقيق السلام العادل. فإنهاء الاحتلال العسكري الإسرائيلي هو شرط ومتطلب استباقي لأي شكل من أشكال الحل سواء تمثل ذلك بحل الدولتين أو حل الدولة الواحدة.
أما بالنسبة للإسرائيليين، فالتحول المستمر نحو اليمين واليمين المتطرف لا يشكل مدعاة للأمل. هذا التحول لا يُلمس فقط في نتائج الانتخابات الإسرائيلية، وإنما في الشارع الإسرائيلي أيضاً. فخلال صيف العام الماضي قضيت وقتاً في "استكشاف" فلسطين التاريخية/إسرائيل اليوم وتحدثت مع العديد من الإسرائيليين من مختلف الخلفيات وبدرجات متفاوتة في درجة التدين، من دون الإفصاح عن هويتي الفلسطينية. هذا "التمرين" أشار لي بوضوح لدرجة بُعد "الإسرائيليين العاديين" عن رؤية ولمس الاحتلال العسكري للأرض الفلسطينية والذي لا يبعد عنهم في أغلب الأحيان سوى كيلومترات قليلة. بكلمات أخرى، فقد لمست كِبَر ورصانة الفقاعة التي تمنع "الإسرائيليين العاديين" من "الاعتراف" بوجود ورؤية الاحتلال. فالإسرائيليون الذين تحدثت إليهم إما أنهم رفضوا اعتبار ما تقوم به إسرائيل على أنه احتلال عسكري أو أنهم فعلاً لم يدركوا ماهية ما أتكلم عنه؛ فهو بعيد عنهم كل البعد ولا يمت لهم بصلة تذكر. كيف يعقل أن لا يُرى الفيل الكبير في الغرفة الصغيرة، هو سؤال برسم الإجابة. ولكن هذا السؤال يوفر بعض الإجابات أيضاً. فمن دون أن يدرك "الإسرائيليون العاديون" أن الاحتلال العسكري الذي يقترفونه وتقترفه حكوماتهم المتعاقبة هو السبب الرئيسي لعدم شعورهم بالأمان؛ فالسلام سيكون بعيداً إن لم يكن مستحيل المنال. عملية الإدراك هذه تشكل فرصة للمجتمع الدولي وخاصة للاتحاد الأوروبي للتدخل بفعالية بالاستناد على تكتيكات المقاطعة وسحب الاستثمارات وفرض العقوبات، بالإضافة لرفض دفع تكاليف الاحتلال وإعفائه من مسؤوليته وتغطيته بأسطورة المساعدات الدولية للفلسطينيين. فالقرارات والتدخلات السياسية التي تحدث تأثيراً اقتصادياً وسياسياً وأخلاقياً وشخصياً ويومياً على "الإسرائيليين العاديين" هي شرط استباقي إضافي من أجل تغيير الديناميكيات المستقبلية بين الفلسطينيين والإسرائيليين.
ثمة إشكالية أخرى طاغية لمستها خلال "رحلتي الاستكشافية" في العينة الصغيرة العشوائية غير الممثلة.
تمثلت هذه الإشكالية في حس وشعور الاستعلاء والفوقية لليهود الإسرائيليين. فجميع من قابلتهم بتصنيفاتهم المختلفة (ليبرالي، يساري، متشدد، علماني، ديني، أو تقدمي) وبأماكن سكنهم المغايرة، تشاركوا في "خاصية" الاستعلاء والفوقية هذه. هذه الخاصية ليست إشكالية فقط على المستوى السياسي وإنما بالأساس على المستوى الإنساني الأساسي. إذ تميزت الحوارات التي أجريتها بأماكن مختلفة جداً ومع أناس مختلفين جداً بوجود جمل وآراء متشابهة حددت معالم النقاش من قبيل "نحن شعب الله المختار"، "نحن لا نكترث للقانون الدولي"، "نحن نساعد الفلسطينيين الضعفاء الفقراء على إنهاء الاحتلال"، "نحن نوفر العمل للفلسطينيين وهم يعملون لدينا"، "لدي أصدقاء فلسطينيون ولكن لم ولن أثق بهم أبداً". وبالتالي فمرة أخرى ومن دون أن يشعر "الإسرائيليون العاديون" بأنهم "أناس عاديون" وليسوا بأفضل الأمم، فمن المستحيل تخيل حل الدولة الواحدة أو حل الدولتين على أرض الواقع.
أخيراً، وكما يتوجب على الفلسطينيين وقيادتهم الانخراط في عملية جدية من أجل إصلاح وإعادة خلق استراتيجيتهم، فعلى الإسرائيليين فعل ذلك أيضاً. فعلى الإسرائيليين الانخراط بنقاش جاد حول قضايا حيوية تتعلق ببنى الفصل العنصري لدولتهم، والاستعلاء اليهودي، والطبيعية الدينية اليهودية لدولتهم، والتخوفات والفوبيا الديموغرافية، وحق العودة للفلسطينيين من المنفى. أضف إلى ذلك الضرورة العاجلة لنقاش وضع القدس بدل تأجيلها؛ إذ إنها عصب الصراع. فلا يجدر "بالإسرائيليين العاديين" التقليل من أهمية القدس "للفلسطينيين العاديين"؛ فحلقات الاشتباك والمقاومة والعنف المندلعة منذ تشرين الاول 2015 تدلل على ذلك.
بالطبع، عنونة كافة الأمور السابقة والتجادل حولها ليست بالقضية السهلة. ولكن الإهمال المستمر لهذه القضايا لن يجعل السلام الحقيقي أقرب بأي شكل من الأشكال. ربما تساعد الملاحظات والمؤشرات والمحاور السابقة على تقييم مستقبل العلاقات الفلسطينية-الإسرائيلية؛ إذ إنهم يشكلون عدداً من العقبات الجوهرية والأساسية لأي سلام حقيقي مستقبلي. هذا الفهم المرتكز على الناس (والمناقش أعلاه) هو أحد أهم العناصر التي يتم تجاهلها باستمرار في التحليلات المختلفة وفي القرارات السياسية أيضاً. إذ إنه من غير الممكن أبداً حل الصراع أو تحقيق السلام الحقيقي من دون تحقيق الشرعية الشعبية أو من دون ملكية الناس لنظامهم السياسي (وهذا لا يحدث فقط عبر الانتخابات)، أو من دون تحقيق وعنونة تطلعات الجماهير.
فآراء الناس وخوفهم ومعاناتهم ومبادؤهم وقيمهم، بالإضافة لخطابهم وسردهم القوي، هي أمور لم يعد بالإمكان الإمعان في إهمالها إن كان الهدف هو تحقيق العدالة والمساواة. يجدر هنا التذكير أيضاً بأن الأدوات والفرضيات والأطر التقليدية قد أثبتت اختلالاتها الجوهرية والبنيوية. وبالتالي، فإن التحول نحو تبني أطر وأدوات جديدة يتطلب قبل كل شيء إقراراً واضحاً ومقروناً بالفعل بأنه قد آن الأوان للنظم السائدة لتُوارَى الثرى.
بعد ربع قرن من الفشل المستمر لم يعد من الصعب أبداً تحديد مواطن وأسباب الفشل أو سبب الاختلالات البنيوية. ولم يعد من المقبول مطلقاً دعم واستيعاب "اعتياد السيطرة والاستعمار". فالمضي قدماً لما هو أبعد من حلقات الفشل والانسداد يتطلب انخراطاً جدياً في عملية فعلية لتفكيك الاستعمار، وفي عملية فكرية لفهم أطر وأسس وفرضيات ديمومة الصراع. فلا الأدوات القديمة ولا الأطر الحالية قادرة على إحداث التغيير الإيجابي المرجو. ولا يجب ولا يمكننا مناقشة الحلول الدائمة طويلة الأمد إن لم يتم عنونة جذور الاختلالات في ميزان القوى وإنهاء الاحتلال العسكري الإسرائيلي فورا.
[نسخة من هذه المقالة نشرت أصلاً باللغة الإنجليزية في كانون الأول 2015 في المجلة الأكاديمية (سياسات شرق أوسطية) ضمن حلقة نقاشية حول مستقبل العلاقات الفلسطينية-الاسرائيلية.]